فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (70):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [70].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي: في كل ما تأتون وما تذرون، لاسيما في ارتكاب ما يكرهه، فضلاً عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلم: {وَقُولُوا} أي: في كل شأن من الشؤون: {قَوْلاً سَدِيداً} أي: قويماً حقاً صواباً. قال القاشاني: السداد: في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال؛ لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات، وهو وإن كان داخلاً في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة، كأنه جنس برأسه، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.

.تفسير الآية رقم (71):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [71].
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم؛ لأنه لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلاً. وبه يصلح كل عمل: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل، فإن الحسنات يذهبن السيئات: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات: {فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} أي: في الدارين. وقال القاشاني: أي: فاز بالتحلية والاتّصاف بالصفات الإلهية، وهو الفوز العظيم.
تنبيه:
قال الزمخشري: المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول، والبعثُ على أن يسد قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله، وهذه الآية مقررة للتي قبلها، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى.
ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره، مراداً آخر، وهو نهيهم أيضاً عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما إلا أن الذي يراعى أولاً، هو ما كان التنزيل لأجله، وذلك ما ذكر.

.تفسير الآية رقم (72):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [72].
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} قال أبو السعود: لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية، وصعوبة أمرها بطريقة التمثيل- مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها، صدر عنهم بعد القبول والالتزام. وعبر عناه بالأمانة، تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيا بحسن الطاعة والانقياد. وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها، بالعرض عليهن، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها- وعن عدم استعدادهنّ لقبولها، بالإباء والإشفاق منها، لتهويل أمرها وتربية فخامتها- وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية، التي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة.
والمعنى: أن تلك الأمانة في عظم الشأن، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام، التي هي مثل في القوة والشدة، مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك، لأبين قبولها وأشفقن منها، ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق، روماً لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه.
وقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن} أي: عند عرضها عليه، إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق- أي: تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة- وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري، أو عن اعترافه بقوله: بلى. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} اعتراض وسط بين الحمل وغايته، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله- أي: أنه كان مفرطاً في الظلم، مبالغاً في الجهل، أي: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلاً، وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل:

.تفسير الآية رقم (73):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [73].
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي: حملها الْإِنْسَاْن ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة، على أن اللام للعاقبة، فإن التعذيب- وإن لم يكن غرضاً له من الحمل- لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها، أبرز في معرض الغرض- أي: كان عاقبة حمل الْإِنْسَاْن لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة، وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده، أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة، وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات، قلما يخلو عنها الْإِنْسَاْن بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة، والالتفات إلى الاسم الجليل، أولاً؛ لتهويل الخطب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار، ثانياً؛ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} أي: مبالغاً في المغفرة والرحمة، حيث تاب عليهم، وغفر لهم فرطاتهم، وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصاً، مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه؛ لتجويده الكلام، وإجادته في المقام، وهكذا عادتنا في كل مجوّد، أن ننقله ولا نتصرف فيه.
بقي في الآية لطائف نشير إليها:
الأولى- فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين، وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال لا تنافيَ بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.
وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعة والاختيارية؛ لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء، وبعرضها: استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره- وبحملها، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعاً عن الخيانة وإتياناً بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبَيْن الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها، حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وخانها الْإِنْسَاْن حيث لم يأت- وهو حيوان عاقل صالح للتكيف- بما أمرناه به، إنه كان ظلوماً جهولاً، وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله، كما يقال: ركبته الديون. وقرره الزمخشري بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها، وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حق. فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها، ومنه قولهم: أبغض حق أخيك؛ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى: {فَأَبْيِنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَاْ}: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن} فأبين إلا أن يؤدينها، وأبى الْإِنْسَاْن إلا أن يكون محتملاً لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه، وهو أداؤها. انتهى ملخصاً.
الثانية- نقل ابن كثير آثاراً عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقياً، وأنه قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن: يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر، ليس بنا قوة، ولكنا لك مطيعين. قال الشراح: ولا بُعد، أن يخلق الله فيها فهماً لخطابه، وأنه كان على سبيل التخيير لها، ولذا عبر بالعرض، لا تكليفاً حتى يلزم عصيانها. انتهى.
قال الإمام ابن حزم في الفصل في الرد على من جعل للجمادات تمييزاً، ما مثاله: وأما عرضه تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإباية كل واحد منها، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك، وهذا نص قوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق، وأن له مبدأً لا يشبهه البتة، فأراد معرفة كيف كان، فقد دخل في قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة، إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها، فلما أبتها وأشفقت منها، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة، وأسقط عنها تكليف الأمانة.
قال: هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز، كما بينه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة وسبقه الزمخشري حيث قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم، ومن ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟، لقال أسوي العوج. وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصور أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.
الثالثة- قال الرازي: إن قال قائل: لم قدم التعذيب على التوبة- في آخر الآية؟ نقول: لما سمي التكليف أمانة، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة، فكان التعذيب على الخيانة كاللازم، والأجر على الحفظ إحسان، والعدل قبل الإحسان.
الرابعة- ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث:
منها عن أبي هريرة مرفوعاً: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك». رواه أبو داود والترمذي، وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص مرفوعاً: «أربع، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة». رواه الإمام أحمد والطبراني، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لمن سأل عن الساعة: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة». قال: كيف إضاعتها؟ يا رسول الله! قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة».
الخامسة- قال ابن كثير: روى عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد أن عُمَر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة: «من حلف بالأمانة فليس منا»، تفرد به أبو داود. أي: لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام، كما تقرر في موضعه. والله أعلم.
السادسة- سبق لي أن كتبت في الآية شيئاً، في منتصف ربيع الأول سنة 1324، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم. فسأل بعض الناس عن تفسير الآية، ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه.
أردت إثباته هنا تعزيزاً للمقام، ونصه: في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع رد العجز على الصدر ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق، أَبَان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب: 16]، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة، بين الله تعالى في خاتمة السورة، شأن الأمانة، وعظم خطرها، وأنها عند الله بمكان عظيم؛ وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقاً، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به، وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشد أزرها، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب، يتخذ عهود الله هزؤاً ولعباً، فيخذل من وثق به، ويمالئ العدو عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به، وما أفظع ما أرتكب وما أعظم جريمته!.
وجلي أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها، وما ذكر بعض من آثارها، ففي أي: مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار، فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة، وكان من آثارها السيء في المدينة وأهلها ما كان- وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره، والْإِنْسَاْن هنا، المعني به جنس المنافق الذي قص من نبئه ما قص، والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد، ظلماً لنفسه وجهلاً بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه، وبالعذاب الذي سيلقاه، وبكون هذا الأمر أمراً ربانياً وعزيمة إلهية ما هي بالهزل.
والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها بهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كل من خطر تحملها، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن، مع أنهن أقوى أجساماً، وأعظم ثباتاً، وأصبر على طوارئ الحدثان، تخوفاً من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها، وإن الْإِنْسَاْن، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال، فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم: 88- 91]، وحقاً أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة، فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب، أسلوبٌ انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن، هل كان بإيداع عقل فيهن أوْ لا؟ وفي تعيين زمانه، وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن، وفي معنى لوم الْإِنْسَاْن، ورميه بالظلم والجهل، بعد ما عرضت عليه، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك- كله فلسفة لفظية، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ، الولعون في الغلو بمفرداتها، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه- ولن يجدوا إليه سبيلاً ما دام هذا سبيلهم- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.